درس الواجب
تقديم:
يتنزل مفهوم الواجب من الفلسفة الأخلاقية منزلة القطب من الرحى، فهو أحد المقولات الأساس التي انبنى عليها التفكير الفلسفي في الشق الأخلاقي إلى جانب أخرى من قيبل: السعادة و الحرية، و اللتان تتداخلان بدورهما مع الواجب، لتشكلا في نهاية المطاف نسقا منتظما، تتداخل معاني كل مفهوم في الآخر، بل قد لا يستقيم مفهوم دون الآخر.
غير أن الناظر المتمعن في مفهوم الواجب لواجد هو نفسه يتراوح ما بين عدة مقاربات و تصورات راجعة هي إلى اختلاف زوايا نظر كل فيلسوف، و محلل نفسي، و عالم اجتماع، و اختلاف زوايا النظر ينصرف هو الآخر غلأى مجمل المفاهيم التي تشكل حجر الزاوية لكل مجال على حدة، ثم عائد كذلك إلى اختلاف المقدمات المُتأسس عليها منهج التحليل، ورغم ما يمكن أي يسجل حولها من اختلاف فهو لا يعني تعارض الأطروحات و إنما تحيك في ثوب واحد و هو مقاربة مفهوم الواجب الأخلاقي باعتباره مفهوما إنسانيا محضا، فتجد الفيسلوف ينظر فيه من جهة معناه التجريدي و التأسيسي، و عالم النفي من جهى تأثيره في الفرد و وجدانه، و عالم الاجتماع من جهة تأثير المجتمع في تمثل الواجب و تطبيقه. و لما كانت الحال هي كذلك، وجب النظر و الوقوف للحديث عن الواجب الأخلاقي كمفهوم فلسفي محض.
دلالات الواجب:
· في الحس المشترك:
يتخذ الواجب الأخلاقي في المعنى البسيط والمتداول عند العامة من الناس بأنه: تلك القدرة على التحكم في التصرفات، و ذلك الآمر الداخلي الذي يتحكم في وجدان الأفراد و يحُول دون إتيانهم تصرفات مشينة يمجها المجتمع ويقذح في مرتكبها، و انتفاء الواجب الأخلاقي عن الفرد يجعل منه حديثا للانتقاص و الاستهزاء والقدح، إنه مرادف على السمت الحسن و الصيت الطيب عند الناس، و لما كان هذا المعنى هو الشائع عند الناس فإنهم يربطونه بطبيعة التربية التي يتلقها الفرد داخل الأسرة، و في الوقت الذي تكون فيه التربية الأسرية ناقصة تنعكس و ترد سلبا على الفرد. فهل يصدق هذا المعنى على المعاجم اللغوية؟
· في اللسان العربي و اللسان الفرنسي:
يتخذ معنى الواجب في اللسان العربي عدة معان، نستقيها من المعاجم العربية، و من أهمها على الإطلاق معجم لسان العرب لابن منظور فيقول عن كلمة واجب: وَجَبَ الشيءُ يَجِبُ وُجوباً أَي لزمَ. وأَوجَبهُ هو، وأَوجَبَه اللّه، واسْتَوْجَبَه أَي اسْتَحَقَّه؛ يقال: وَجَبَ الشيءُ يَجِبُ وُجوباً إِذا ثَبَتَ، ولزِمَ. ونَفَذ. يقال: وجب البيعُ يَجِبُ وجوباً، وأَوْجَبَه إِيجاباً أَي لَزِمَ. إذن فمعنى الواجب هو: اللزوم و الثبات، أي أنه القدرة على الامتثال الدائم للناهي و الوازع الأخلاقي. إن كان هذا هو معنى الواجب في اللغة العربية فما معناه غي اللغة الفرنسية؟
أما في اللسان الفرنسي نجد مثلا معجم MICRO ROBERT: يقابل كلمة واجب بDEVOIR بمعنى: الواجب أو الإجبار الأخلاقي العام، و نقول تصرف التصرف الشخص عن طريق الواجب. كما ننعت شخصا ما بأنه رجل واجب؛ أي أنه يحترم ما تمليه الضرورة الأخلاقية. فهل تتوافق هذه الدلالات اللغوية و المعنى الفلسفي للمفهوم؟
· في الدلالة الفلسفية:
يعرف صاحب كتاب المعجم التقني و الفلسفي لالاند أن الواجب هو: الوجوب الأخلاقي الذاتي الذي يرتكز على النداء الباطني بمعزل و منأى و مبعد عن أي قاعدة خارجية كالدين و القانون، مكا أ،ه ينصرف إلى الامتثال الالزامي الذي يتأسس سلطة قهرية خارجية، و من ثمة يلتقي هذا المعنى مع الدلالات التي تطرقنا إليها في الدلالى اللغوية.
غير أن هذه التحديدات اللغوية و الفلسفية لا تنفي النظر في المواقف التي ثورت المفهوم و تحدثت عنه بوضوح التحدث، مستشكلين الموضوع الاستشكال، و متسائلين:
Ø هل الواجب الأخلاقي إرادة حرة أم أنه ضرب من القهر و الإكراه؟
Ø فإن كان إرادة حرة فعلى ماذا ينبني؟ و إن كان ميسما من الإكراه فكيف ذلك؟
Ø ما هي العلاقة الممكن إيجادها بين الوعي الأخلاقي و الواجب؟
Ø على ماذا يتأسس الوعي الأخلاقي؟
Ø هل الواجب الأخلاقي يحكمه ضمير الفرد أم ضمير المجتمع؟
Ø كيف يتدخل المجتمع في بناء الوعي بالواجب الأخلاقي؟
Ø هل الواجب الأخلاقي يتأسس على معطى فردي؟
المحور الأول: الواجب و الإكراه
تمهيد:
لئن كان للإنسان الحرية التامة في ممارسة حقوقه، فإن الأمر يختلف أشد الاختلاف حينما يتعلق الأمر بالواجب حيث يضيق مجال الحرية والاختيار ويصبح الإكراه الميسم الأساس، سواء مورس بشكل ذاتي (=الضمير) أو خارجي(= القانون، المجتمع). إذ الراجح أن يكون الواجب على شكل إلزام يفترض القيام به أو الإحجام عنه حتى وإن تعارض مع مصلحة الفرد ونوازعه الخاصة.
يتضح من ذلك أن الواجب لا يكاد ينفصل عن الإكراه. بل إن العلاقة بينهما علاقة تضايف إن لم نقل تماه، لكن ألا يمكن أن يصدر الواجب عن محض اختيار خالص إرادة حرة بعيدا عن الإجبار والإلزام؟
vموقف كانط.
عالج كانط مسألة الواجب بشكل عام في كتبه ومقالاته الأخلاقية[1] معالجة دقيقة كان الهدف منها التأسيس الفعلي والكوني لمفهوم الفعل الأخلاقي من حيث هو ضرورة عقلية نابعة من ذات إنسانية تتمتع بنوع من الحرية والاستقلال الذاتي [2]autonomie. معنى ذلك أن كل عاقل لا بد أن يقتنع ويقبل بالفعل الأخلاقي على شكل واجب ـ حتى وإن تعارض مع ميولاته الذاتية ـ مادامت الغاية هي تحقيق أكبر حرية إنسانية طبقا للقوانين ،بحيث يمكن لحرية كل واحد أن تتعايش مع حرية الآخرين. هذه المقولة تستمد قوتها من كون احترام القانون الأخلاقي الذي يحكم الجميع ضرورة لا محيد عنها حتى يتمكن الشخص من التعايش مع الجميع تحت مظلة المساواة أمام القانون. والمرجع الأساس الذي يجب أن ينطلق منه الجميع ـ حسب كانط ـ هو العقل لأنه كوني بالنسبة للجميع. والحكم الأخلاقي إذ يصدر عن الإرادة الخيرة الحرة ـ التي مصدرها العقل هي الأخرى ـ فهو أيضا يمكن توصيفه بالكوني. الإرادة تلك يجب أن تكون غاية في ذاتها تفترض أن يكون الواجب الأخلاقي هو الآخر خال من كل غاية منفعية وبالتالي غاية في ذاته. بهذه الوصفة يمكن أن يكون الإكراه الذي يفرضه العقل على الشخص نابعا من حرية ذاتية مبنية على الاقتناع، بحيث يكون الإلزام داخليا وذاتيا قائم النية الحسنة والخالصة.
الإكراه بهذا المعنى يصبح فعلا من أفعل الإرادة. إنه إكراه حر[3] يتخذ صفة الآمر القطعي المطلق والخال من الغائية. بمعنى انه يتميز عن الأمر الأخلاقي الشرطي الذي تعبر عنه عبارة "افعل كذا لتنال كذا"(مثل : لا تسرق كي لا تدخل السجن) الذي لا يصنفه كانط في خانة الأفعال الأخلاقية لما فيه من مساومة وابتذال يسلبان الفعل الأخلاقي غايته النبيلة. كما أن الأوامر الأخلاقية غير مشروطة بأية نتائج أو ميول، بل لها بداهة مباشرة، لدرجة أن الإرادة تعرف أن عليها أن تخضع لهذه الأوامر[4]، وهذه الأوامر ذات صبغة كونية شمولية هي التي تؤسس لمعنى الواجب عند كانط وفق القواعد التالية:
1. تصرف بحيث تجعل من قاعدة فعلك قانونا لنفسك ولسائر الناس.
2. تصرف دائما وفق الطريقة التي تجعلك تعتبر الإنسانية، في شخصك وفي غيرك، غاية مطلقة لا وسيلة بأي حال من الأحوال.
3. تصرف معتبرا إرادتك مشرعا لتشريع كوني.
اهتجس كانط بهاجس الكونية وهو يبني فلسفته النقدية بشكل عام. لذلك وضع قوانينا تتسع رقعتها لتشمل الإنسان كمفهوم، أي الإنسان في صيغته المطلقة، مركزا على العقل والإرادة لطابعهما الكوني والمشترك. فالعقل العملي إلى جانب الإرادة هما المشرعين لمفهوم الواجب، الذي هو إكراه، من حيث هو فعل خاضع للعقل، وللحرية، لأن مصدره الإرادة فهل يمكن تصور إرادة بدون حرية؟ أليس في هذه الحرية ما يجعل إتيان الفعل الأخلاق نابع من رغبة الإنسان في أن ينال استحسان الآخرين (المجتمع)؟
vموقف دوركهايم.
الجواب على هذا الإشكال يجد مقدماته النظرية عند عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم حيث يرى، هو، أنه بالإضافة إلى الطابع الإلزامي الذي يسم الواجب، ثمة رغبة و ميل نحو انجاز الفعل الأخلاقي الخير. الواجب بهذا المعنى محط رغبة[5]، ما دام الإنسان خير بطبعه كما يقول روسو، وليس فقط محض إلزام كما يرى كانط. إننا نشعر بنوع من اللذة لا مثيل لها عند ممارستنا للواجب، بسبب أنه واجب[6].
لم يعد الواجب مع دوركهايم مجرد معطى متعالي خالص وإنما هو مرتبط بتجربة الذات في علاقتها بالأخر. التجربة تلك تبين أن المجتمع يرفض نظامه الأخلاقي فرضا مما يجعلنا نتساءل عن قيمة الإرادة الصانعة للفعل الأخلاقي في ظل مجتمع يفتقر إلى الحرية. في خضم هذا التضارب يرى دوركهايم أنه ليس هناك "فعل أخلاقي خالص تم القيام به على أنه واجب، بل يكون من الضروري دوما أن يظهر هذا الفعل على أنه جيد ومستحسن بشكل ما. وعلى العكس من ذلك يبدو أنه لا توجد موضوعات مرغوب فيها بشكل خالص، لأنها تتطلب دوما قدرا من المجهود الشخصي"[7].