تقديم :
إن السياسة هي تجسيد لممارسة عليا تتم بين أفراد النوع البشري، ففيها يتم الانتقال من الاجتماع المؤقت والتلقائي إلى الاجتماع الدائم المتمثل في إقامة الدولة على مبادئ التعاقد الاجتماعي الذي يتنازل الأفراد بموجبه عن جزء من حرياتهم الفردية ليمتثلوا لسلطة الدولة من حيث أنها تمثل المجتمع عبر الأساليب الديمقراطية والانتخاب الحر.
فالسياسة إذن هي ممارسة للسلطة داخل المدينة أو الدولة، وبواسطتها يتم تثبيت القانون من خلال قوة عمومية تتجسد في مجموعة من الأجهزة والمؤسسات. هكذا يحيل مفهوم السياسة على مجموعة من المفاهيم المرتبطة به، مثل: الدولة، السلطة السياسية، الحق، القانون، العدالة...
وقد اعتبر أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي بطبعه، وأن "الأمر الذي يميز الإنسان بشكل خاص هو كونه يدرك الخير والشر، والأمر العادل والجائر، وكل العواطف الشبيهة بذلك، والتي يكون التواصل بها مؤسسا للأسرة وللدولة". فالممارسة السياسية إذن تشكل أهم الممارسات البشرية، وهي التي تجعل الوجود الاجتماعي منظما وقائما على مبادئ عقلية قانونية وأخلاقية. ولهذا لا يتحدد مجال النظر السياسي بمفهوم الدولة فقط ، وإنما بمفاهيم أخرى مرتبطة بها كالحق والعدالة والعنف.
فالدولة ترتكز على قوانين تتوخى إحقاق الحق والإنصاف والعدالة والمساواة وتهذيب السلوك البشري. غير أن الناس مع ذلك، وتبعا لمصالح محددة، يلتجئون إلى ممارسة العنف على بعضهم البعض، مما قد يضطر الدولة إلى التدخل بقوانينها وأجهزتها القضائية إلى إحقاق الحق وتثبيت العدالة.
- فما الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ وما الغاية منها؟ وكيف تمارس سلطتها السياسية؟
- ما العنف؟ ما هي أشكاله ومظاهره؟ وما هو دور العنف في التاريخ؟ وهل يمكن الإقرار بمشروعية العنف؟
- ما الحق؟ ما العدالة؟ وكيف تتحدد العلاقة بينهما؟
تمهيد :
لم يظهر المفهوم الحديث للدولة إلا في القرن السادس عشر،وهي تعتبر تنظيما سياسيا يكفل حماية القانون وتأمين النظام لجماعة من الناس تعيش على أرض معينة بصفة دائمة، وتجمع بين أفرادها روابط تاريخية وجغرافية وثقافية مشتركة. ولذلك لا يمكن الحديث عن الدولة في مجال ترابي معين إلا إذا كانت السلطة فيها مؤسساتية وقانونية، وأيضا مستمرة ودائمة لا تحتمل الفراغ.
كما يقترن اسم الدولة بمجموع الأجهزة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع. هكذا تمارس الدولة سلطتها بالاستناد إلى مجموعة من القوانين والتشريعات السياسية التي تروم تحقيق الأمن والحرية والتعايش السلمي.
وهذا ما يجعلنا نتساءل عن المشروعية التي تتأسس عليها الدولة من جهة، وعن الغاية من وجودها من جهة أخرى؟
كما تدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة ممارسة الدولة لسلطتها السياسية؟ وعن مدى مشروعية الدولة في استخدام العنف؟
المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها
فيما يخص مفهوم المشروعية، ينبغي التمييز بين ما هو مشروع يستهدف إحلال العدل والحق، ومن ثمة فهو يشير إلى ما ينبغي أن يكون. أما ما هو شرعي فيعني ما هو عادل بالنظر إلى النصوص المتواضع عليها، ومن ثمة فهو يشير إلى ما هو واقعي وفعلي.
أما مفهوم الغاية فيدل على "ما لأجله إقدام الفاعل على فعله، وهي ثابتة لكل فاعل فعل بالقصد والاختيار، فلا توجد الغاية في الأفعال غير الاختيارية."(المعجم الشامل...مرجع سابق)
فما الغاية من وجود الدولة إذن؟ ومن يختار لها هذه الغاية؟ ووفق أية أسس ومنطلقات؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟
لقد قطع فلاسفة التعاقد الاجتماعي مع التصور الديني للدولة، ولذلك فمشروعية الدولة عندهم تستمد من الالتزام بمبادئ التعاقد المبرم بين الأفراد. وغايتها هي تحقيق المصلحة العامة المتمثلة حسب اسبينوزا في صيانة حقوق الأفراد ككائنات عاقلة، أو المتمثلة حسب هوبز في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي.
وقد انتقد هيجل هذا التصور التعاقدي الذي يعتبر أن للدولة غاية خارجية مثل السلم أو الحرية أو الملكية، ورأى أن غاية الدولة لا تكمن في أية غاية خارجية، وإنما تتمثل في غاية باطنية؛ فالدولة غاية في ذاتها من حيث إنها تمثل روح وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتعتبر تجسيدا للعقل المطلق.
وقد بين فيما بعد ماكس فيبر بأن هناك أنواع متعددة من المشروعية عبر التاريخ؛ مشروعية الحكم اعتمادا على التراث وحماية الماضي واستلهام الأجداد، والمشروعية المرتبطة بشخص ملهم يمثل سلطة دينية وأخلاقية أو إيديولوجية ويحكم باسمها. والمشروعية المؤسسية المستمدة من التمثيلية الانتخابية ومرجعية القانون والمؤسسات وتوزيع السلط.
1 – موقف جون لوك:
تستمد الدولة مشروعيتها مما تحققه من خيرات وحقوق مدنية للأفراد ، فالدولة لا يمكن أن تحظى بالمشروعية إلا إذا كانت قادرة على توفير الأمن ، وحماية الممتلكات ، وتمكن الناس من ممارسة حريتهم ، وتكريس قيم المساواة ، كما أن الدولة تستمد مشروعيتها من تطبيق الحاكم للقانون على جميع أفراد المجتمع بدون استثناء ، وردع كل من ينتهك تلك الحقوق.
يقول جون لوك : " يبدو لي أن الدولة جماعة من الناس تكونت لغرض وحيد هو المحافظة على خيراتهم المدنية وتنميتها..."
2 - موقف اسبينوزا:
لا تستمد الدولة مشروعيتها من ممارسة السلطة ومن قهر الأفراد وترهيبهم ، بل تستمدها من العمل على تحريرهم والحفاظ على أمنهم ، وتمكينهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية دون إلحاق الضرر بالآخرين ، تتمثل المشروعية الحقيقية لقيام الدولة ، حسب اسبينوزا ، في ترسيخ قيم الحرية ، كما تتمثل في أن تكون السلطة بيد جماعة من الأفراد أو بيد فرد واحد ، بشرط أن يتخلى كل فرد من أفراد المجتمع عن حقه في أن يسلك وفق ما يريده هو .
يقول اسبينوزا : "إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة ، أو إرهاب الناس ، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين..."
3- موقف هيجل :
لا تستمد الدولة مشروعيتها من مجرد حماية الملكية والحرية الشخصية ، لأن أساس الدولة يتجسد في تحقيق الخير المشترك ، إن الدولة لا تنشأ نتيجة وجود إرادة فردية واحدة ، بل هي مجموع الإرادات الواعية ، إلا أن وجودها مشروط بمدى استقرار الأفراد لتحقيق تعاقد قائم على التشارك الجماعي.
4 – موقف ماكس فيبر:
يرى فيبر على أن السياسة هي مجال لتدبير الشأن العام ، وهي تحمل في طياتها أشكالا متعددة من الهيمنة، وهاته الأخيرة قائمة على مبدأ المشروعية التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أسس ، تتمثل الأولى في سلطة الأمس الأزلي أي سلطة العادات والتقاليد ، تم السلطة اللدنية أو الكارزمية وهي السلطة القائمة على المزايا الشخصية الفائقة لشخص ما ، وأخيرا السلطة التي تفرض نفسها بواسطة الشرعية (ويقصد هنا بالشرعية ممارسة الحكم وفق القوانين السائدة ) .
5 - موقف توماس هوبس:
فإن أساس سيادة الدولة يكمن أولاً في قدرتها على ضمان السلم المدني بين المقيمين تحت سلطتها وحمايتهم من أي معتد خارجي ، وما هي بذلك إلا نتيجة لتعاقد إرادي بين الأفراد قصد الانتقال من الحالة الطبيعية ( البدائية ) ، إلى الحالة المدنية .
يقول توماس هوبس : " إن البشر وهم ذووا ولع طبيعي بالحرية وبممارسة الهيمنة على الغير قد أوجبوا على أنفسهم حدودا يعيشون في كنفها داخل الجمهوريات التي أسسوها .وإذا سنوا هذه الحدود ، جعلوا منتهى طموحهم وغاية سعيهم وهف وجودهم أن يضمنوا بقاءهم الذاتي وأن يحيوا حياة أوفر سعادة بواسطة هذه الطريقة..."
6 – نظرية الحق الطبيعي :
مضمون هذه النظرية أن الطبقة الغالبة هي التي تملك زمام السلطة وتؤسس الدولة ، وتقر القوانين والأعراف التي تنظم المعاملات بن الحكام والمحكومين ، ليصير بالتالي حق القوة والغلبة ، هو الأساس الذي تستمد منه الدولة مشروعية وجودها .
7 – اســـتـــنـــتـــاج :
إن تأسيس الدولة على نظرية القوة والغلبة ، أمر أبان عن فشله على مستوى التطبيق ، فالدولة المؤسسة على القوة والغلبة لا يمكنها الاستمرار ، وهكذا فالحديث عن مشروعية الدولة و الغاية من وجودها ، هو الإطار الذي يجعل المواطنين داخل المجتمع واعين بحقوقهم وملتزمين بواجباتهم ، لأنهم يتمتعون بإرادة حرة ، هكذا يصبح من حقهم الدفاع عن دولة الحق والقانون باعتبارها الضامنة لحرياتهم الفردية والجماعية. فكيف تمارس الدولة سلطتها السياسية؟