ولمزيد من التوضيح نورد فيما يلي ظروف نشأة كل تيار أدبي على حدة، وأهم خصائصه وأبرز ممثليه.
1- التيـــــار الإحيـــــائي:
يقوم التيار الإحيائي في الشعر العربي الحديث على محاكاة الأقدمين وبعث
تراثهم الشعري، عبر إحياء الشعر العباسي والأندلسي لنفض رواسب عصر
الانحطاط ومخلفات كساد شعره، عن طريق العودة إلى القصيد العربية في عصر
ذروتها وازدهارها، فعارضوا لغة القدماء وأساليبهم البيانية واقتفوا آثارهم
في المعاني والأفكار، مهما اختلفت موضوعاتهم ومناسباتها.
ومن أهم الشعراء الذين تزعموا هذا التيارنجد محمود سامي البارودي وحافظ
إبراهيم وأحمد شوقي ومحمد الحلوي ومحمد بن إبراهيم، فعاشوا على أنقاض
الماضي والتوسل بالبيان الشعري القديم وبعث اللغة البدوية ؛ ومن ثمة
كانت نقطة التحول / التجديد الأولى في الشعر العربي الحديث تقليدية، التفتت إلى التراث أكثر مما التفتت إلى ذات الشاعر وواقعه.
غير أن شعار العودة إلى الماضي سرعان ما أزيح ليقوم مقامه شعار آخر، هو
البحث عن الذات الفردية وتوكيدها، فترك الإحيائيون الباب مفتوحا في وجه
التيار الجديد الذي ولد في أحضان هذه الدعوة، وجعل الاستجابة لنوازع الذات
شعاره الأول.
2- الـــتيار الـــذاتــي:
ظهرهذا
الاتجاه(الذاتية) في أول الأمر مع جماعة الديوان وممثليها:عباس محمود
العقاد، وعبد الرحمن شكري، وعبد القادر المازني، لكنه لم يكتمل إلا مع جهود
شعراء الرابطة القلمية في المهجر( إيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، وجبران
خليل جبران،…) وجماعة أبولو( أحمد زكي أبو شادي، وأحمد رامي،وأبو القاسم
الشابي، ومحمود حسن إسماعيل، و عبد المعطي الهمشري، والصيرفي، وعلي محمود
طه، وعلي الشرنوبي، ومحمود أبو الوفا، وعبد العزيز عتيق…) في أواخر العقد
الأول من القرن العشرين لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية.
أ- جماعة الديوان:
سميت
بهذا الاسم نسبة إلى الكتاب الذي اشترك في تأليفه عباس محمود العقاد وعبد
القادر المازني عام 1921"الديوان في الأدب والنقد"، ولم يشارك فيه عبد
الرحمان شكري لخصومة بينه وبين المازني. وقد حرصت هذه الجماعة في دعوتها
على التجديد من خلال استيفاء القصيدة الشروط التالية:
- أن تكون معبرة عن وجدان الشاعر ومجسدة لصدقه ومعاناته
- أن تتسم بالوحدة العضوية وتنوع القوافي
- أن تعتني بتصوير جواهر الأشياء، وسبر أغوار الطبيعة والتأمل فيما وراءها.
- أن تتجنب التشبيهات الفارغة وأشعار المناسبات والمدائح الكاذبة، ووصف الأشياء والمخترعات إمعانا في التقليد.
وكان
الشعر في نظرهؤلاء الرواد وجدان، وأضفى عليه كل واحد منهم معنى خاصا تجنبا
لإنتاج شعر متشابه في وسائله وغاياته، وسعيا إلى التفرد والاختلاف:
- العقاد: عد الوجدان مزيجا من الشعر، وهذا ما جعله يميل في شعره يميل الى التفكير.
- شكري:
اعتبر الوجدان تأملا في أعماق الذات إلى حد تجاوز حدود الواقع، وهو ما
يعني تجنب العقل المحض، وتأمل ما يجول في أغوار ذاته الكسيرة، والبحث عن
بواعث شقائه وألمه.
-
المازني: كان الوجدان عنده كل ما تفيض به النفس من أحاسيس وعواطف، وهذا ما
جعله يعبر عن انفعالاته بشكل عفوي وبصورة طبيعية، أي دون تدخل العقل أو
توغل في أعماق النفس.
ب- جماعة الرابطة القلمية:
هي
إحدى الجمعيات الأدبية التي أسسها الأدباء العرب(جبران خليل
جبران، ميخائيل نعيمة، ندرة حداد، إيليا أبو ماضي، نسيب عريضة… ) المهاجرون
في أمريكا عام 1920
للتواصل فيما بينهم، ولتقديم رؤية جديدة للشعر العربي، استمر نشاط الرابطة
عشرة أعوام، وكان أعضاؤها ينشرون إنتاجهم الأدبي في مجلة "الفنون" التي
أسسها "نسيب عريضة"، ثم في مجلة "السائح" لعبد المسيح حداد، وقد توقف نشاط
الرابطة بوفاة مؤسسيها وتفرق أعضائها.
وقد سعت هذه الرابطة إلى تحقيق ما يلي:
- بث روح جديدة في الأدب العربي شعره ونثره.
- محاربة الجمود والتقليد.
- تعميق صلة الأدب بالحياة.
- الانفتاح على الآداب العالمية.
كما
وسَّعت الرابطة مفهوم الوجدان ليشمل كل ما ينبثق عن الذات من حياة وكون،
وعلى هذا النحو اعتبروا الوجدان بأنه نفسٌ وحياة وكون.وعندما نتمعن في شعر
روادها لا نجد شيئا من ذلك التلاؤم بين النفس والكون، بل نعاين مكانه هروبا
من الوجود، اكتسى ألوانا مختلفة عند كل شاعر على حدة:
·فجبران
خليل جبران هرب إلى عالم الغاب والطبيعة لتفادي كل ما يمكن أن يعكر صفو
حياته، وآثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة،و ميخائيل نعيمة انقطع إلى تأمل
ذاته بطريقة صوفية،وأما إيليا أبو ماضي فلما فشل في تحقيق مبتغاه متوسلا
بالخيال تارة وبالقناعة تارة أخرى، اضطر إلى الفرار من الناس ومن الحضارة
أسوة بجبران.
ج- جماعة أبولو:
اتخذت
هذه الجماعة من أبولو إله الفنون والعلوم والإلهام في الأساطير اليونانية
اسما لها، وكانت لها مجلة تحمل الإسم نفسه، ورغم أن هذه الحركة (1932_1936)لم
تعم طويلا، فقد تركت آثارا كثيرة. يرجع الفضل في تأسيسها إلى زكي أبو شادي
ومطران خليل مطران و إبراهيم ناجي ،وعلي محمود طه وزكي مبارك وأحمد محرم.
ومن بين أهم أغراض هذه الجماعة :
1. السمو بالشعر العربي وتجديده.
2. مناصرة النهضات الفنية في عالم الشعر.
3. تحسين الوضع الاجتماعي والأدبي والمادي للشعراء والدفاع عن كرامتهم.
4. تعميق الاتجاه الوجداني والانفتاح على الغرب، واستلهام التراث بأسئلة جديدة وبطرائق خلاقة.
إن
ما اعتنى به شعراء هذا التيار هو الشعر الذاتي الذي يدور حول المرأة وما
يثيره الحديث عنها من معاني(الحنين والشوق، اليأس والأمل، الارتماء بين
أحضان الطبيعة والزهد في الحياة، مواجهة الحياة والاستسلام للموت)، مما جعل
الحياة عندهم تتراوح بين السعادة المطلقة والشقاء المطلق. ولكل شاعر من
شعراء هذه الحركة طريقته الخاصة في الكشف عن مجاهيل ذاته،فنجد أن زكي أبو
شادي انكفأ على ذاته لتضميد جراحها والتغني بآمالها، إلى أن طغت ذاتيته على
شعره، بل وعلى حياته كلها، وإبراهيم ناجي يدور أجود شعره حول المرأة
لحاجته إلى حب يملأ فراغ قلبه، أما
حسن
كامل الصيرفي فقد فشل في الحب فيئس من الحياة، وانكمش على الذات والتغني
بأحزانها وآلامها،وأما أبو القاسم الشابي فقد هام بالجمال وعشق الحرية
بسبب مرضه، وإحساسه بانفراط عقد حياته، في حين نجد أن عبد المعطي الهمشري
ولع بالطبيعة واستشرف ما وراء الحياة من خلال الموجودات وعلي محمود طه تغنى
بمظاهر البهجة والسرور منغمسا في متع الحياة.
وهذا
ما دفع الناقد المصري محمد النويهي ليقول فيهم:"لقد أغرقوا في شعرهم
العاطفي حتى أصيب بالكظة، وزالت جدته، وفقد بالتكرار معظم حلاوته وتحولت
رقته إلى ميوعة، وإرهاف حساسيته إلى ضعف ومرض"
وقد
امتازت معاني شعراء أپولو حسب أحمد المعداوي بالسلبية نظرا لتعاطي شعراء
الجماعة مع مواضيع الطبيعة والهروب من الحياة الواقعية إلى الذات المنكمشة،
والفرار من المدينة إلى الغاب أو الريف، وترنح الشعر بكؤوس الحرمان
والخيبة واليأس والمرارة ، والمعاناة من الاغتراب الذاتي والمكاني كما في
قصيدة” خمسة وعشرون عاما” لعلي الشرنوبي.غير أن القضاء لم يستجب لهم
جميعا،” فينهي آلامهم بتجربة الموت، فقد مات الشابي والشرنوبي والهمشري وهم
صغار، وبقي غيرهم من شعراء هذه الجماعة يعزفون على الأوتار نفسها، حتى
بليت ورثت ولم تعد تضيف جديدا، ذلك أنهم قد رفضوا أن يفتحوا أنفسهم للحياة
المتجددة، وآثروا على ذلك حبس مواهبهم في دائرة التجربة الذاتية الضيقة، ثم
خلف من بعدهم خلف اقتفى آثارهم ونسج على منوالهم، فتشابهت التجارب وكثر
الاجترار وقلت فرص الجدة والطرافة، حتى صح فيهم قول الناقد محمد النويهي:”
قد أغرقوا في شعرهم العاطفي حتى أصيب بالكظة، وزالت جدته، وفقد بالتكرار
معظم حلاوته، وتحولت رقته إلى ميوعة، وإرهاف حساسيته إلى ضعف ومرض”
وانتهت
جماعة أپولو بالانفصال وتمزق الجماعة وهجرة بعضهم الحياة العامة كأحمد زكي
أبو شادي الذي سبقه إلى ذلك” ناجي إلى ماوراء الغمام، وسبقه علي محمود طه
إلى ماوراء البحار مع الملاح التائه، وسبقه محمود أبو الوفا إلى معاناة
أنفاس محترقة وامتدت عمليات التخلي والانفصال بعد ذلك عند الصيرفي في
الألحان الضائعة، حتى وصلت إلى آخر دواوين محمود حسن إسماعيل أين المفر؟
وتعددت الاتجاهات التي تختلف في تفاصيلها، ولكنها تلتقي عند انفصال الشاعر
المصري عن مجتمعه”
وهكذ
نرى أن أحمد المعداوي استطاع أن يتخلص من جماعة أپولو كما تخلص سابقا من
جماعة الديوان والرابطة القلمية، ،من أجل أن يعطي الصدارة والمشروعية
للشعر الحديث باعتباره شعر الثورة والتغيير والممارسة الفعلية….
وبهذا
نكون قد انتهينا من عرضنا حول الفصل الاول من كتاب ظاهرة الشعر
الحديث لـ*أحمد المعداوي(المجاطي)*، لكن لا يمكننا ان نقف هنا دون أن نشكر
أستاذتنا الفاضلة على توجيهاتها القيمة لنا ونتمنى من زملائنا الكرام كذلك
أن يشاركوننا بمداخلاتهم لنغني هذا الموضوع او بالاحرى هذا العرض أكثرمما
هو عليه .